لقاء البرهان-واشنطن في زيورخ- انعطافة محتملة في مسار السودان؟

المؤلف: الصادق الرزيقي08.21.2025
لقاء البرهان-واشنطن في زيورخ- انعطافة محتملة في مسار السودان؟

بغض النظر عن التحليلات والتفسيرات المتنوعة التي ساقها المحللون بشأن اللقاء المفاجئ الذي جرى في زيورخ بسويسرا الأسبوع الفائت، بين رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، ومسعد بولس، مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب والوفد المرافق له، تتفق الغالبية العظمى من الآراء على أهمية هذه الخطوة الجريئة، وتعتبرها منعطفًا حاسمًا في مسار الأحداث المتصاعدة في السودان. من المتوقع أن يكون ما قبل هذا اللقاء متميزًا تمامًا عما سيليه، وأن تترتب عليه مواقف جديدة وتقييمات ذات تأثيرات جمة على مسار الحرب المستمرة منذ أكثر من ثلاثة أعوام.

بعيدًا عن الدوافع الكامنة وراء موافقة البرهان على هذا اللقاء وسفره المفاجئ، تتبلور تساؤلات جوهرية حول الخلفيات العميقة لهذا الحدث الهام، وهل سبقته اتصالات ومشاورات مكثفة أدت إلى تحول في الموقف الأميركي الذي كان حذرًا من التدخل المباشر والحاسم في الشأن السوداني؟

الجدير بالذكر أنه مع وصول إدارة الرئيس ترامب إلى السلطة، لم يكن الملف السوداني ضمن أولويات البيت الأبيض المباشرة. فقد ورثت الإدارة الحالية وضعًا غير مواتٍ لهذا الملف، الذي ظل حبيسًا لدائرة ضيقة في وزارة الخارجية الأميركية، وهي الجهة التي تهيمن على تعامل واشنطن مع القضية السودانية وتوجه مساراتها ومعالجتها.

لم تُعر الإدارة الأميركية الحالية اهتمامًا كبيرًا بالأوضاع في السودان خلال الفترة الماضية، باستثناء بعض المحاولات المحدودة التي قادها وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، بتأثير من الإدارات المختصة في وزارته، بالإضافة إلى تصريحات ونشاط محدود لبعض أعضاء الكونغرس وجماعات الضغط. ولم تحقق هذه الجهود مجتمعة النتائج المرجوة، ومن بينها اجتماع اللجنة الرباعية الذي تم تحديده ثم أُلغي في نهاية الشهر الماضي.

نتيجة لذلك، ظل الملف السوداني لسنوات طويلة حكرًا على وزارة الخارجية الأميركية، التي لم تكن تولي اهتمامًا كبيرًا بالأهمية الجيوستراتيجية والسياسية التي يمثلها السودان في المنظور الإستراتيجي. ولم تسعَ الوزارة إلى الحوار البناء مع السودان لإرساء أسس تفاهمات تقود إلى علاقة مستقرة وبيئة تفضي إلى سلام دائم في السودان والمنطقة، على الرغم من أن واشنطن كانت طرفًا فاعلاً في تعقيد المشكلات التي يعاني منها هذا البلد.

على الرغم من العقوبات التي فرضتها واشنطن على رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، في 16 يناير/كانون الثاني الماضي، قبيل مغادرة الديمقراطيين السلطة، على خلفية اتهامات باستخدام الجيش السوداني أسلحة كيماوية في الحرب ضد قوات الدعم السريع في الخرطوم، إلا أن الإدارة الجمهورية الحالية تجاوزت هذه القضية، وفضلت التعامل المباشر مع البرهان، انطلاقًا من قناعتها بأن التواصل المباشر معه يوازي الأهمية الكبيرة التي توليها للسودان في الوقت الراهن ومستقبل العلاقة مع واشنطن، وتأثير الأحداث الجارية فيه على المنطقة.

في هذا السياق، اغتنمت مؤسسات أميركية نافذة مثل وكالة المخابرات المركزية (CIA) والبنتاغون، الفرصة للتحرك، باعتبارها من أهم أدوات صناعة القرار وتنفيذه في الولايات المتحدة. تحركت هذه المؤسسات عبر قنوات مختلفة، واستطلعت آراء واسعة وجمعت معلومات غزيرة حول الأحداث في السودان وتداعياتها.

تم إرسال وفد من المخابرات قبل أسابيع إلى بورتسودان، حيث التقى بمدير المخابرات العامة، الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل. خلال هذا الاجتماع، تمت مناقشة القضايا والملفات الرئيسية التي تشغل بال واشنطن في السودان، وهي: الوضع المتأزم للحرب وتأثيراتها على المنطقة، وكيفية استئناف التعاون السوداني في مجال مكافحة الإرهاب، ومنظومة الأمن الإقليمي في شرق ووسط وغرب أفريقيا، وأمن البحر الأحمر. وشهد الاجتماع طرح آراء بناءة بعد حوار صريح بين الجانبين.

في الوقت ذاته، كانت هناك عناصر موفدة من مراكز بحثية أميركية تابعة لوكالة المخابرات المركزية والبنتاغون، تتجول في المنطقة وتلتقي بعدد من السودانيين في القاهرة، والدوحة، ونيروبي، ودبي، وتركيا، وأوغندا، وجنوب السودان.

استمعت هذه العناصر إلى وجهات نظر متباينة تمثل جميع الأطياف السياسية والاجتماعية السودانية، ومواقفها من الحرب الدائرة وكيفية معالجتها، والدور الأميركي المنتظر. كما استشارت الإدارة الأميركية ومبعوثوها آراء دول عربية وإقليمية فاعلة: مصر، وقطر، والسعودية، ودول أفريقية، بالإضافة إلى تركيا وبعض الأطراف الغربية المؤثرة.

ما يشغل بال إدارة الرئيس ترامب، هو سعي الرئيس الأميركي إلى احتواء التوترات والحروب المشتعلة في العالم، محاولًا الظهور بمظهر رسول السلام، بالإضافة إلى خدمة المصالح الحيوية للولايات المتحدة، وبناء إستراتيجيات جديدة تأخذ هذه المصالح في الاعتبار.

فيما يتعلق بالسودان، اعتمد ترامب وإدارته على تقارير الجهات المعنية، وهي: المخابرات، ووزارة الدفاع؛ لتقييم الأوضاع في السودان، وتم على إثر ذلك تحديد أولويات البيت الأبيض، وهي:

  • إقامة تعاون مشترك مع السودان في علاقة ثنائية مباشرة.
  • الحفاظ على منظومة الأمن الإقليمي في منطقة القرن الأفريقي وجوار السودان.
  • تسوية النزاعات في السودان ومنع توسعها.
  • استئناف ومواصلة التعاون السابق في مجال مكافحة الإرهاب، حيث يمتلك السودان دورًا بارزًا لم تتمكن أي دولة أخرى من المساهمة فيه بالقدر الذي تعاونت فيه المخابرات السودانية مع الطرف الأميركي سابقًا.
  • تعزيز الوجود الأميركي داخل هذا البلد والاستفادة من موارده الوفيرة، وخاصة في مجالات التعدين والطاقة والمعادن النادرة.

في ضوء هذه المعطيات، توفرت لدى الجانب الأميركي حقائق ومعلومات دفعت إلى اغتنام اللحظة المناسبة. وليس سرًا أن تقارير دبلوماسية سودانية وأخرى لدول صديقة للسودان، تحدثت منذ فترة طويلة عن حوار داخل مؤسسات القرار الأميركي، مفاده أن السودان بلد ذو أهمية استراتيجية، ويتعين على واشنطن أن تخرج من حالة الحياد وتحسم توجهاتها بشأن الحرب الدائرة، وقراءتها وفق المصالح الأميركية، واعتماد التقارب مع قيادة الجيش ورئاسة الدولة والعمل معها كسبيل أمثل للتوصل إلى تفاهم وإنهاء حالة الحرب.

بغض النظر عن التفاصيل التي دارت في لقاء زيورخ، فإن القليل الذي تسرب يشير إلى اهتمام الأميركيين بمستقبل الحكم وهندسة الحياة السياسية في السودان، بما في ذلك تجاوز بعض العقبات وعدم التمسك بدعم طرف واحد ضئيل الحجم يتحدث باسم القوى المدنية.

ينظر الطرف الأميركي إلى أن مستقبل السودان السياسي لا يختلف كثيرًا عن النماذج الموجودة في المنطقة وجواره، حيث سيظل الجيش لفترة ليست بالقصيرة الطرف الأقوى في المعادلة السياسية.

لكن الموقف الأميركي الذي ينبغي على البرهان أن يكون واضحًا وحازمًا فيه هو محاولة الأميركيين إثارة مخاوفه من الإسلاميين. البرهان يعلم جيدًا أن الإسلاميين هم التيار الأوسع تمثيلاً في المشهد السياسي، وهم متجذرون داخل المجتمع ومؤسساته، وينخرط هذا التيار بشكل كامل في المعركة ضد التمرد، وله امتدادات إقليمية وعلاقات واسعة في العالم تم تسخيرها من أجل هذه المعركة.

لا يمكن مقارنة هذا التيار بغيره من القوى السياسية، فجميع التحالفات وحملات التعبئة التي تمت، والمقاومة الشعبية وتشكيل الرأي العام المساند للقوات المسلحة، شارك فيها الإسلاميون بفعالية جعلتهم أهم تيار وطني يعمل مع الآخرين للحفاظ على وحدة البلاد وسلامتها وسيادتها.

تقول شواهد التاريخ إن الأميركيين لم يكونوا دائمًا على قدر الثقة مع حلفائهم، ومن الخطأ الفادح الاعتقاد بأن أوراق اللعبة بأكملها في يد الأميركيين، لذا يجب توخي الحذر الشديد في التعامل مع واشنطن؛ لتجنب الخداع والخذلان كما فعلوا مع النميري، وحسني مبارك، وشاه إيران وغيرهم من الحلفاء الذين تخلوا عنهم فسقطوا كأوراق الخريف. فليس للولايات المتحدة صديق دائم، بل مصالح دائمة.

الاعتماد على واشنطن وحدها لن يُمكّن السودان من تجاوز محنته والانطلاق نحو مستقبل أفضل، فإذا أراد الأميركيون علاقات متوازنة تأخذ في الاعتبار أمن السودان واستقراره وسلامة أراضيه، فإن التفاهمات الحالية يمكن أن تمهد الطريق نحو بداية صحيحة.

في الوقت ذاته، يمكن للبرهان أن يجنب البلاد شرور التوجهات الأميركية المتطرفة إذا نجح في حواره مع الجانب الأميركي، وكان واضحًا ومتمسكًا بالثوابت الوطنية، ورافضًا لأي تدخل سافر في الشأن الداخلي.

التوصل إلى تفاهم معهم حول المنافع المشتركة والتعاون الثنائي الذي يخدم مصالح البلدين، بالإضافة إلى التنسيق في الملفات الإقليمية والحفاظ على الأمن والسلم في الفضاء الأفريقي والعربي، يمنح السودان فرصة ذهبية لتحقيق ذلك.

إلى أن تحدد الإدارة الأميركية رؤيتها للتعامل مع ملف الحرب في السودان، سواء كانت ستقترح رؤية للتسوية أو ستعمل مع السلطة الشرعية القائمة على إنهاء التمرد كما طالب البرهان، يجب على رئيس مجلس السيادة عدم تفضيل القوى الخارجية على القوى الداخلية، التي تمثل العامل الأهم في المعادلة، ودورها هو الأبرز في الحفاظ على وحدة البلاد وتماسكها.

فالقوى الخارجية، مهما بلغت قوتها ونفوذها، تراقب التفاعلات الداخلية عن كثب، ولا يمكنها فرض أي شيء على السودان إذا كانت قواه الداخلية متيقظة وحية ومتكاتفة وقوية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة